الأربعاء، 17 أغسطس 2011

مرثيــــــــــة

كتبتها...في ليلة مجنونة..كان القلب يرتدي ثياب الحداد..وفي بؤرة النفس يرتع السواد..

رحلت مواسم العزاء

وما زال القلب يكابر..بالبكاء.

ـــــــــــــــــــــــــ
يزعمون أن مواسم الحداد رحلت

وأن الشمس رفعت أكفها إلى الله ضارعة متوسلة ألا تعود السنين العجاف

وأن تنتهي أحزان السماء ..بغيث جديد..لأرض القلوب

فبئسا لما يزعمون

وبئسا لأماني الظلام بأن تشرق صباحاتها من بعد أفولك

فكل صباح بليا ضياؤك كسيف ..كسيف

...............

ترددت كثيرا في نشر نعيك ..فما زلت أحاول أن أستسيع مذاق رحيلك..

ما زلت أمني السماء بليلك..فحتى الليالي تجن جنونا..وترصد ..وترصد

لعلها تدرك أسباب انشطار الأمنياات ..من بعد رحيلك..
...................

من يدرك الآن..حجم الظلام..

سوى من كان في لياليك نجما..بقربك..

من يستطيع أن يفتديك..لترجع..وتدرك مرارة بعدك..

من بإمكانه أن يغطي الليالي..وهي تموت من البرد من غير سنائك..
.......................

من يا حبيب كان يغادر..؟

أأنت..وأنت تسافر عنا بعيدا..

أم نحن..ونحن نسافر إلينا..نخبئ أرواحنا في خبايا البكاء عليك..

أجبنا..فكل القلوب حسيرة عليك.

.......................

في كل ليلة أعلن مواسم جديدة

في كل مرة أمارس طقوسا جديدة

من بعد رحيلك فقدت يقيني..فقدت ثباتي..وجن مني نصف عقلي..

والنصف الآخر يبكي عليك.

.........................

من غدر بالآخر في ذاك الصباح ؟؟ أجبني..

ألموت ..؟ حين اختار لنا أن نعيش بليا ضيائك..

أم أنت غدرت..بأرواحنا..وحجبت عنها عنان السماء؟؟

..........................

أكنت تظن وأنت تغيب أنك انتزعتَك مني؟؟

وأني نسيتك في زحمة الناس..والكبرياء المزيف..؟

وأني ارتشفت رحيلك..وارتويت اعتيادا بدونك ..؟

فمن يا حبيبي كان يكذب عليك؟؟

أقسوة قلبي ..أم كبريائك؟؟!!!

.............................

كنت أكيدة بأنك ترجع..مع هجرة العصافير في أحلى المواسم..ترجع إلينا كأحلى النوارس..

لكنك كنت استسغت البعاد..حتى توغلت ضلوع البعاد..بدوني..

الآن جئت أعلن بكل غباء ...انهزام ثباتي..يا قرة العين..فهل كنت تعرف أني كنت أكابر؟

.....................................

نبكي عليك..وأعلم أنه يتردد عندك صوت البكاء..

نمارس أحزاننا في الخفاء..ونندم أننا كنا بعيدا وأنت تشد رحالك ..

نموت ألفا وألفا وألفا..لأننا لم نكن عند بابك..وأنا لم نصافح قلبك..

....................

لماذا النهايات تأتي عناءً.....؟

وهل كان لزاما أن ترتدي الخاتمة ثياب الحداد؟!!

........................

حتى التساؤلات...موغلة في الخذلان

المرأة ونصف الدولاب الآخر

اسندت رأسي على الجدار ...وأنا شبه مستلقية على أريكتي...تأملت السقف الحزين ...تأملت النافذة الكسيرة...والدولاب.

الدولاب !!
قمت من استلقائي ..جلست عل السرير أرقب الدولاب .. وكأني بي تذكرت شيئا....آآآه إنك هناك ...تذكرتك وعيني تنظر باب الدولاب ( نصفه)...أشياؤك التي تركتها كما تركتني...أشياؤك العزيزة في نصف الدولاب الثاني...الذي خصصته لك احتراما لخصوصياتك......
ما جدواها الآن...لماذا تظل هناك .لماذا تظل أشياؤك معي في غرفة واحدة...
ألم أقرر أن أنفضك من حياتي.وأختم عليك بالشمع الأحمر حتى تفقد وأفقد أي محاولة للرجوع؟..إذا ما جدوى أن تظل أشياؤك هناك بعد أن رحلت أنت...

فكرت طويلا..قمت من مكاني.أحسست بالاختناق ...فتحت النافذة الكسيرة..فتحتها وفردت جناحيها...هبت نسمة
الخلاص من عفن الحزن وغبار الانكسار لتجدد الهواء في صدري..
رجعت إلى قلب الغرفة..فتحت الدولاب...نصفك..وجمعت حاجياتك دفعة واحدة بين كفيّ وذراعيّ....أحببت أن أتخلص منك دفعة واحدة كما فعلت بي سابقا .... أمسكت بها جيدا كي لا يسقط منها شيء في الغرفة...مددت يدي بها خارج النافذة..وكأني بي أحمل نعشك إلى مثواه الأخير..وأنت ممدد على ذراعي وبين كفي ...ظللت مادة يدي خارج النافذة ، خارج غرفتي ,,

وفجأة..وبحركة جدا شعورية...بسطت ما بين يدي ليسقط ما بقي منك إلى الخارج...خارج عمري.

أخذت نفسا عميقا ....آآآآآآه ما أروع الخلاص .لأول مرة أحس أنني خالية منك تماما...لا أحمل منك أي متعلقات..غير بقايا غدر و مرارة ذكرى بقيت في النفس..وأبت أن تغادر.

ما زلت لا أصدق .أيمكن أن يمحا من نفسي كل ذلك الحب الذي حملته لك..وأن يتبخر بهذه الطريقة كالدخان..كالضباب الذي ينقشع مع خيوط الشمس..
نعم ما عدت أريدك ..لم يعد لقلبي حاجة لوجودك به...حتى أنني لم أعد في حاجة لأن أبقى هنا في نفس المكان...في هذه الغرفة....فما الذي يضطرني للبقاء هنا حيث كنا معا .ما الذي يضطرني أن أبقى أو أعيش مع ذكريات لا أريد لها بقاءً في نفسي.


لن أستجدي الذكريات بعد اليوم......مهما صار قلبي أجدبا فلن أستجدي أمطارك..فجفاف القلب وتشققه أفضل من الغوص في المهانة.


فتحت نصف الدولاب الآخر..وجمعت ما فيه في حقيبة الرحيل ...وبدأت المسير ...حيث أرض جديدة........وزرع جديد....وربما قلب جديد.

الثلاثاء، 16 أغسطس 2011

مجنونة ( قصة قصيرة ) لم تكتمل

كانت حياتي هادئة , ساكنة , وأيضا جافة . . هدوء الليل ، وسكون المقابر ، وجفاف أوراق الخريف الصفراء . .

نشأت وحيدة . . إلا من أب حنون عطوف . . أفنى عمره من أجلي . . ورغم ذلك سكنت الوحدة في نفسي حتى الثمالة . .
كنت متعطشة حتى الموت إلى قطرة تروي ظمئي إلى حب . .
إلى رجل يسكنني وأسكنه بعد أن وصلت إلى مشارف الأربعين . . امرأة صادية . . فقيرة من كل مظاهر الحب تواقة لملامح حبيب مضى العمر دون أن يبين له  أي حضور في حياتي . .

لم أعرف سوى أبي . . لم أتعرف رجلا غيره . . ومرت الأيام وكبرت . . وابيض الشعر بجانبه ومعه ولأجله . .

صابرة وغير صابرة . . راضية وغير راضية . . قانعة وغير قانعة . .

وجاء اليوم الذي كان النقطة الفاصلة بين حياتي الحاضرة الهادئة التائهة . . وبين مصيري الجديد الذي كان قد تخيره لي القدر من وراء الغيب . .
كان اليوم الذي اختار الله فيه أبي بجانبه ، رحل أبي . .

ذهب الرجل الوحيد في حياتي . . تركني الرجل الذي لم أعرف غيره رجلا . .
وبقيت وحيدة تماما ، إلا من ظلال تمشي معي . . ظلالي . . في بيت كبير لا يحوي سواي . . أنا . . وحدي !

والكثير من الذكريات . . والكثير من الأشواق الدفينة !

رحل المعزون بعد موت أبي وبقيت وحدي . . ضاق علي البيت رغم كبره . .
لم أشأ أن أظل وحيدة . . فكرت وتمنيت الرحيل عنه إلى حيث لا ذكرى ولا ذكريات !

ذات ليلة برد وصقيع قمت من مكاني . . وقفت قبال النافذة . . واتتني رغبة ملحة في فتحها رغم المطر والريح . .
كنت قد مللت من السكون القاتل الذي يلف الغرفة ويلف نفسي . .
فتحت النافذة . . كان المطر غزيراً . . والبرد شديدا . . لكنه كان منعشاً . . لمحت بصيص ضوء . . كان صادراً من ذلك البيت المهجور
الذي كثيراً ما سمعت عنه قصص مخيفة وأنه مسكون . .
البيت الذي لا يجرؤ أحد على السكن فيه أو الاقتراب منه ! . . سوى البواب العجوز ..وبقية الأركان خاوية مهجورة إلا من ذلك الشبح الذي تردد بين أهالي القرية أنه يسكنها. .

شبح لصاحب البيت الذي ظهر فيه بعد وفاته ليمنع أي ساكن جديد من العبث بذكرياته فيها بعد أن مات حزنا على زوجته الراحلة في ذات المنزل ! . .

انتابتني فكرة مجنونة تلك الليلة , ليلة البرد والصقيع وأنا أحدق في ذلك النور المنبعث من بيت الرجل الشبح . .

لماذا لا أسكن ذلك البيت ؟!؟ . . ألست متشوقة إلى ظل رجل في حياتي . .

فماذا يضيرني لو سكنت معه ؟!؟ . . أهجر عزلتي وأشاركه وحدته . . ألم يكن في يوم من الأيام رجلاً عاشقا ؟!؟ . . وربما كان رائعاً !! . .

ألم يعش وحيداً مثلي . . وعاد الآن ليبحث عن وليف فقده في حياته . . فلماذا لا أعيش معه ؟!؟ . . لم أخشاه ومم ؟!؟

أيمكن ذلك ؟!؟ . . أن يموت الإنسان ويعود في صورة شبح . . . أن يقرر أن يعود إلينا شفافا يرانا ولا نراه ! . . أن يظل حتى ما بعد الموت تعذبه ذكرياته ؟؟!!
وإذا كان كذلك فلماذا نخشاه ونهرب منه ؟!؟ . . وما الذي يجعل منه مصدر خوف ورعب ؟!؟ . .

ألا يمكن أن يتعرض أي منا لنفس المصير . . ألا يمكن أن أعود مثله في يوم من الأيام . . شبحا أبحث عن شريك الروح وصنو النفس الذي توارى عنى في زحمة الحياة . .
فلماذا الخوف والمصير يمكن أن يكون واحدا !

وفي لحظة تحدي حزمت حقائبي وخرجت في لحيف البرد ودققت الباب على البواب العجوز وسألته عن إيجار مسكني الجديد !!


هذا جزء من مذكرات كتبتها تلك المرأة التي قررت السكن في ذلك ( البيت المهجور ! )
أهداني إياها البواب العجوز بعد رحيلها . . أقلبها الآن بين يدي . .

تلك المرأة التي سكنت ذلك البيت وحيدة والتي ماتت فيه مجنونة !

حكاية موت الأمنيات ( قصة قصيرة ) الجزء 2

تزوجت أنا ...وهنأت ...وظلت معنا صديقة القلب والروح والفؤاد...تشاركنا سعادتنا ..وتفرح لفرحنا...وتضحك معنا وأحيانا نستدعيها لتتنزه معنا فلا تمانع؟؟؟

كنت طوال تلك الفترة أراها بشوشة ...سعيدة ضاحكة..وكنت أظنها لجهلي سعيدة بزواج صاحبتها...وسعيدة من أجلي....آهٍ..يا لجهلي وغبائي...لم أكن بغروري وحبي لمتعتي وبقائهما بجانبي أعبأ إلا بما يريحني...وكان يريحني أنني حصلت على الحبيبة وتزوجت بها...وكان يريحني أيضا بقاء صديقة القلب معي وبجانبي....لما كنت ألقاه معها من راحة الروح ...ولم أكن أرى أكثر من حدود نفسي...ونزواتي...فلم أستطع أن ألاحظ نحولها أو عذاباتها وهي تذوي شيئا فشيئا بجانبي .. ولم أكن أحمل نفسي عناء التفكير في سببه...ولم يكن يعنيني ما ألحظه في وجهها من ذبول...وما يعتريها من شرود..

ولا أنسى ذلك اليوم الذي أخبرتها زوجتي أنها حامل...ولا أنسى وجهها حينئذ وما اعتراه من تغير جاهدت في إخفائه ولكنه لم يخفى عني...نعم بدأت رويدا رويدا ألاحظ صديقة القلب وحزنها الذي تتفنن في إخفائه وراء ستار الابتسامة المفتعلة...نعم بدأت أرى وجهها الحقيقي وقلبها ومدى عمق جرحها بعد أن هدأت ثورة حبي ولهفي لزوجتي...

غابت عنا فترة..أحسست بالحنين إليها وإلى وجودها حولنا..حتى زوجتي لم تستطع أن تخفي ضيقها من غياب صديقتنا الحميمة..وذهبنا لزيارتها والاطمئنان عليها ..فماذا لقينا..وجدنا امرأة صفراء ذابلة شاحبة...بل وجدت أمامي بقايا امرأة كانت في يوم من الأيام حبيبتي دون أن أفهم معنى أن تكون امرأة مثلها حبيبتي.

جلسنا إليها في ذهول وبنا حاجة في أن نعرف سبب مرضها المفاجئ بالنسبة للناس والغير مفاجئ بالنسبة لي...ظلت رغم اصفرارها مبتسمة تحاول إخفاء مرضها وجل أحزانها...

وظللنا نتردد عليها من فترة لأخرى أنا وزوجتي ...وأحيانا زوجتي لوحدها ...وتنبؤني بأخبارها ...تغيرت أحوالي بغياب صنوة الروح والفؤاد..وعندما وضعت زوجتي وبدأ الصغير في النمو كانت كثيرا ما تأتينا لتلاعب صغيري...وأحيانا تترجى أن نتركه عندها بعض الوقت إذا ما منعها المرض من الحضور أو إذا ما رغبنا في التنزه لوحدنا..وكنا نذهب بالصغير إليها فتأخذه بين أحضانها بلهفة المشتاق المحب...وكنت أعي حينها أنها إنما تأخذ بين أحضانها شيء مني...من رائحتي...وكم كان يؤلمني ذالك الشعور....

ومرت الأيام وتتابعت وهي هي..لا تتغير ... المحبة العطوفة البشوشة...التي أصبحت متعلقة بطفلي حتى الموت....وزاد شحوبها مع الأيام ونحولها وتكسرت ملامحها ...حتى جاء اليوم الذي زاد بها المرض...وأدخلت المشفى ...أنبأتنا أمها بذلك فهرعنا إليها حيث كانت ممددة بكل استسلام لبراثن المرض والهم والأحزان...

وظللنا نتردد عليها وفي كل مرة كنت أحس بنظراتها الشاحبة المذهولة أنها تريد أن توصل إلي كلاما ولكنها عاجزة...كان إحساسي قويا ..وشبه متأكد أن لديها كلام تود قوله لي...لي أنا وحدي..

فعزمت أن أقوم بزيارتها منفردا ...وبالفعل استأذنت من عملي صباحا وذهبت إليها ...نعم ..ذهبت إليها لوحدي وكانت لوحدها في الغرفة..وهكذا شاء القدر ..نعم..شاء القدر ألا يحرمها من آخر أمنية ظلت حبيسة في نفسها من ضمن الأماني الفانية...والرجايا الحبيسة داخل جدران قلبها الطيب العفيف...

ذهبت إليها وحيدا وجلست قبالتها ...وأيضا كعادتها دائما ابتسمت رغم آلامها الذي عجز عنه الأطباء..وحاروا فيه...وظلت تنظر إلي وكأنها تريد أن تشبع نفسها وناظرها مني حيث لا رقيب ولا حسيب ..
وبعد زمان مر كأنه الدهر وقلبي يئن معها بين جنبات نفسي المتألمة ..نطقت حبيبة النفس ..نعم نطقت حبيبتي الميتة الشاحبة والعرق يتصبب على جبينها بعد أن أخرجت من الدرج المجاور لها خاتما وناولتني إياه..نطقت المريضة الممدة كالموتى أمامي وطلبت مني بكل رجاء .....................أن ألبسها الخاتم ومدت لي يدها اليسرى..ذهلت ..وقتلني الموقف حتى النخاع.....و بكيت ...نعم يا صديقي

بكيت من ألم الموقف ..وعرفت أنها تطالبني بتحقيق آخر أمانيها ...وعرفت جيدا من ابيضاض وجهها أنها في النزع الأخير وأنها باتت تصارع الموت...بل تصارع الأمنيات التي غلبتها ..



أخذت منها الخاتم بكل رفق وألبستها إياه

ابتسمت حبيبة النفس وصديقة القلب، وأعطتني مجموعة من الأوراق لم أستطع أن أعرف ما فيها ..فقد طلبت مني ألا أقرأها حتى أخرج من عندها....ونظرت إلي النظرة الأخيرة ...وماتت وهي قريرة راضية ...وتركت في فؤادي الحسرة ...والندم على جهلي بمشاعرها...

وكانت أوراقها هي عذاباتها ..وهي مشاعرها وآلامها..لم يشأ صديقي أن يطلعني عليها كما أطلعني على قصته ..ولكنه أطلعني على أسطر كانت قد كتبتها : ((يا حبيبي آه لو تعرف كم كانت تقتلني كل لحظة كنت أراك بجانبها..أو كلما أمسكت بيدها أمامي..أو كلما ضحكت معها في حضوري ..في كل لحظة من تلك اللحظات يا حبيبي يبيض خيط في قلبي..حتى شاخ قلبي .وهذا ما قتلني يا حبيبي ))


هذه هي قصة صديقي الذي( جمعنا مكان واحد بعيدا عن أهلنا لظروف العمل )...الذي حكاها لي باكيا ذبيحا ...يصارع في نفسه أشياء باتت ذكرى ...ولكنها ما زالت تعيش بين أوارقه.....

ذكريات عصفت بي ذكريات
...............شيبتني ..شيبت حتى صبايا

حكاية موت الأمنيات ( قصة قصيرة ) الجزء 1

كثيرا ما كنت أراه ممسكا بتلك الأوراق يقلبها بين بيديه قارئا تارة ومتفكرا تارة أخرى...وكثيرا ما استهواني وشدني الفضول لمعرفة سبب تعلقه بتلك الأوراق ...إنها بالطبع حكاية وقصة - كما أخبرني يوما – لكن لمن تكون ...ومن هو صاحب تلك الأوراق التي جعلت من صديقي ذلك الراهب في محراب حكاية...ما الذي جعله يهيم بهذا الحد بمجرد حبر على ورق ...وقصة نائمة على صفحات...ما سرها حكاية سلبت لبه حتى أوشكت به أن يصل لحد الولع والجنون بها .....
ظللت حائرا متفكرا من صمت صديقي طوال تلك السنون ...راغبا وبشدة سبر أغواره ونبش أوراقه...سألته مرارا من باب الفضول ومن باب الرحمة به من ذلك الكبت الذي يكاد يمزقه...وهو منكفئ في غرفته على حكاية
وجاء اليوم الذي لم أتمالك فيه نفسي من الدخول عنوة في نفسه والقرع بشدة وبإصرار على همومه ...ذلك اليوم الذي رأيت أن صديقي قد وصل لدرجة الفناء بعد أن استغرقه العيش تماما بين أوراقه...

سألته وأقسمت عليه أن يطلعني على ذلك السر الذي يحبسه بين ضلوعه..والذي يكاد يفنيه فناء والذي يكاد يحرمني من أعز الناس إلى قلبي...صديق العمر

نظر إلى بعد أن رفع وجهه الغارق في الحزن والمدفون بين كفيه مجيبا على سؤالي

( تريد أن تعرف سر الأوراق...وتشاركني ما عجزت عن إخراجه من نفسي طوال أعوامي السالفة..
سألته عن سر تلك الأوراق ملحا تارة وراجيا تارة أخرى ..فأجابني أنها ليست مجرد أوراق وحكاية...بل حياة ما زالت تنبض أمامه على جماد
حياة عاشها صديقي بكل بكل تفاصيلها في أول الشباب وبكل عنفوان تلك المرحلة...وافتقدها وحرم منها فجأة بكل قسوة الحياة وشرورها ....
قال : أحببت فتاة كنت قد تعرفت بها في إحدى المناسبات ... لم تكن مجرد فتاة ..ولم تكن امرأة عادية..كانت رائعة بكل ما عرفت من معاني الروعة..فتاة راقية حالمة تعشقها النفس وتألفها الروح
امرأة تنساب في الروح بحلو حديثها ومعشرها...ظللت معها مخلصا لها ومخلصة لي ...كنت حينها في قمة ثورة الشباب وطيشه ...ولهذا لم أكن أعي جيدا ما معنى أن يعرف الرجل منا إنسانة مثلها...وربما لم أعرف قدرها جيدا...وربما لم أزن مقدار تعلقها بي
كنت أنظر للأمر بشكل أكثر بساطة وأقل عمقا من نظرتها وأنا لا أعلم...كانت لي مجرد امرأة رائعة حينها ... ومجرد حب...ولم أكن أعلم أني كنت لها حياة ومصيرا

وجاء ذلك اليوم ....ذلك اليوم الذي رأيتها مع صديقة حميمة لها ...كانت جميلة جدا..وكنت طائشا جدا..كنت مجرد شاب...متقلب القلب ...فرغبت في التقرب إلى تلك الصديقة...

جذبتني بنظراتها وحلو حديتها...والتقيتها أكثر من مرة مع صديقتي حتى حدثت الألفة بيننا وتعلق قلبي بها ونسيت صديقة القلب...التي كانت غافلة عما يدور حولها .

غرقت في غرام فتاتي الجديدة حتى أذني...أحببتها وتعلقت بها مما أنساني فتاتي الأولى...وتجاهلت تعلقها بي..


حتى جاء اليوم الذي تخاصمنا فيه أنا وحبيبتي الجديدة ...فهرعت إلى صديقة القلب ...وبكل أنانية الرجل في وبكل قسوة الشباب ذهبت إليها أشكو لها حبي الجديد

وأبكي ..وأبث غرامي بصاحبتها ولوعتي بها...فنظرت إليّ بكل جمال العاشقة فيها ..(( وهذا ما أدركته مؤخرا )) وابتسمت ابتسامة أم شفوقة

وأخبرتني أن لا أحمل هما وأنها سوف تساعدني بكل ما أوتيت من وفاء لي...وليتني عرفت حينها أنني قتلتها ...وصلبت أرقى مشاعرها بغروري ونزقي وجهلي...


وجاءتني بعد أيام تبشرني بأنها دبرت لي لقاء معها دون أن تشعرها حتى يتسنى لي مصالحتها...بشرتني وأفرحتني ...ولكن وجهها لم يكن ليبشر بالخير ...وقد جاءتني صفراء شاحبة ..وأنا الأعمى المغرور...الذي لم يكن ليرى شيئا أبدا خارج نطاق رغباته

ومرت الأيام وأنا أعتقد أنني في قمة السعادة...وتزوجت بصاحبتي المغرم بها ...وكانت صديقة القلب أقرب الناس لنا في تلك المناسبة ...أفنت نفسها لتوفر لنا كل ما يريحنا وكانت معنا في كل التجهيزات خطوة خطوة...

وليتني كنت أدرك أيامها أو أعرف أنني بدأت في قتلها بالخطى المقتربة...وبالجرعات البطيئة.